مئة سنة على صدور جريدة "المفيد"
هي "جريدة وطنيّة علميّة سياسيَّة"، صاحب امتيازها عبد الغني العُرَيسي، ومدير سياستها حسن بيهم. صدر عددها الأوّل في بيروت يوم الثلاثاء في 18 محرّم من سنة 1327هـ، الموافق لـ27 كانون الثاني من سنة 1224م (وفق التقويم الشرقيّ)، و9 شباط من سنة 1909م (وفق التقويم الغربيّ). وقد اتّخذت الصحيفة شعارًا لها في أعلى الصفحة الأولى هو الحديث الشريف "الخلق كلّهم عيال الله فأحبّهم إليه أنفعهم لعياله". كما نقرأ في الأعلى أنّ "المفيد" يصدر كلّ يوم، وأنّه يُطبع في مطبعته الخاصّة أي مطبعة "المفيد"، وأنّ ثمن النسخة منه "متليك" واحد (أو ميتاليك، وهو قطعة نقدٍ معدنيّة صغيرة)، وأنّ بدل الاشتراك السنويّ فيه هو في بيروت أربعة ريالات (مجيديّة) وفي سائر الجهات ليرة عثمانيّة (ذهبيّة). أمّا الإعلان فيه فتُفاوَض بشانه الإدارة.
استهلّ عبد الغني العريسي العدد الأوّل من "المفيد" بافتتاحية حملت عنوان "المقدّمة"، وشغلت عمودَيْن من الصفحة الأولى، وممّا جاء فيها: "اللّهمّ نحمدك ونستعين بك ونستهديك صراطًا سويًّا. ربَّنا إنّا نجأر إليك ونتوكّل عليك، فاحلل عقدة من لساننا وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا. أمّا بعد، فهذه جريدة وطنيّة تبحث في ما يؤول إلى خير الأمّة، وتدعو إلى ما فيه صلاح الرعيّة، فتُعرِب عن سرائرها بغير محاباة، وتُفصح عن وجدانها بلا هوادة. تلتزم الحقّ في ما تقوله ولا تداجي، وتترفّع باستقلال الفكر ولا تداري ...". ويُضيف العريسي أنّ الجريدة علميّة تتوخّى في أبحاثها ما يُرشد إلى معالي الأخلاق، ويثبّت ذكرى الماضي، ويبسط مستحدَث الاختراع. وهي سياسيّة تنشر من الأخبار ما يفيد الناس، ولاسيّما ما له "مسيس بالأمّة العثمانيّة". هذه هي إذًا غاية الجريدة، لكنّ العريسي يُشهد الله على ما يقول، ويسأله أن يثبّت القلوب، وألاّ "يجعلنا ممّن يُلبسون الباطل بالحقّ، ويُؤثرون الضلالة على الهدى ...". ثمّ ينتقل في افتتاحيّته إلى موضوع آخر، فيقول: "كان الناس يشايعون الأمير، ويبايعون الكبير، ولا يراعون حرمة الوجدان ولا كرامة الضمير، فانقضى ذلك العهد (يعني العهد الحميديّ) وتنزّلت آلهة الحكّام عن عروشها، وأصبح القوم بنعمة الله إخوانًا، لا استئثارَ بالأمر ولا استبدادَ بالرأي. فحيّا الله الأمّة إذ غدت تدير شؤونها بيدها وتعمل على صلاحها من نفسها، وحيّا الله الحكم إذ رجع إلى نصابه، بعدما اختلسه الظلَمَة الجوَرَة والخوَنَة المَكَرَة الذين أرادوا بنا كيدًا فجعلناهم الآسفين ...".
كانت جريدة "المفيد"، مُذ صدرت، صحيفة يوميّة، واستمرّت تصدر يوميّة حتّى آخر أيّامها. وقد صدرت في أربع صفحات من القطع الكبير في كلّ منها أربعة أعمدة؛ ولم يمضِ زمن طويل حتّى زال الشعار من أعلى الصفحة الأولى، وزال تعريف الصحيفة من تحت الاسم أو العنوان. ثم ظهر اسم شريك في ملكيّة الصحيفة هو فؤاد حنتس (تُوُفِّي سنة 1913). وبعد سنوات بتنا نرى اسم مدير مسؤول عن سياستها، ومن الأسماء التي قرأنا في هذا الموقع، محمّد منيب الناطور وفؤاد حنتس.
لم يكن عبد الغني العريسي (وُلِدَ في بيروت سنة 1891) طارئًا على الصحافة، ففيه يقول مؤرّخ الصحافة العربيّة فيليب طرّازي (تاريخ الصحافة العربيّة، ج 4، ص 14) إنّ نفسه "نزعت إلى الصحافة منذ الصغر، فسافر إلى أوروبا وتعلّم أصولها في المدارس المختصّة بهذا الفنّ ...". وقيل إنّه التحق بمدرسة الصحافة في باريس. بيد أنّ العريسي كان صوتًا صارخًا في صحراء "الطورانيّة"، فهو من أبرز دعاة الإصلاح في الدولة العثمانية، وهو المميَّز في اندفاعته العربيّة، وقدوة الشبّان العرب في الدفاع عن العنصر العربيّ وعن حقوق العرب. لذا عاش في صراع مع السلطات العثمانيّة بعامّة، ومع الاتحاديّين وحكوماتهم بخاصّة. وهذا ما فرض على "المفيد" الصراع نفسه، فأصلَتَ عليه سيف الرقابة، وفرض عليه التعطيل مرّات ومرّات، وجعله يعيش ما يشبه النزع، فيترجّح بين الحياة والموت أو بين البقاء والزوال.
حَمِي وطيس المعركة بين العريسي والاتحاديّين سنة 1912، فشُنَّت الحملات على "المفيد"، وبدأت قرارات التعطيل؛ فما كان أمام العريسي غير اللجوء إلى نظام الأسماء البديلة. فقد عُطِّل "المفيد" في أواخر شهر أيّار 1912، فاصدر العريسي، في 30 أيّار 1912، "صدى المفيد" الذي حمل ترقيمًا جديدًا، فبدأ عدده الأوّل بالرقم "1"، لكنّه حافظ على الحجم والدوريّة وشروط الاشتراك والإعلان، ولم يبدأ بافتتاحيّة خاصّة تبيّن أسباب التعطيل، وتتحدّث عن الغرض من إصدار "صدى المفيد". ولسنا نعلم كم استمرّ "صدى المفيد"، لكنّ بين يدينا منه بضعة أعداد. وفي أيلول من العام نفسه، عُطِّل "المفيد" إثر صدور العدد 1082، فصدر، يوم الإثنين في 23 أيلول 1912، بامتياز جديد، فحمل اسم "لسان العرب"، وحمل عدده الأوّل الرقم "1-1083"، وأصبح مديره المسؤول المحامي توفيق الناطور. وقد بدأ العدد الأوّل هذا بافتتاحيّة صارخة، خطّها قلم العريسي نفسه، فشغلت الصفحة الأولى كلّها، وحملت عنوان "باسم العرب نحيا وباسم العرب نموت". وفي تلك المقالة صبّ "الفتى العربيّ الأغرّ" جام غضبه على الاتحاديّين وحكومتهم وسياستهم، وقال كلامًا خطيرًا لم نألفه في مقالات الصحف الأخرى. وممّا جاء في تلك المقالة: "نحن عرب عثمانيّون مهما حاول غلاة الاتّحاديّين نقض هذه الجنسيّة، لأنّنا خُلِقنا عربًا بالرغم من أنفسنا. فلو كان في الإمكان أن ينحطّ الرجل فينسلخ عن ماهيّة أمّته لعذرنا القائلين بفكرة الذوبان، لكنْ أبت النفس الكريمة أن تكون دنسة ساقطة... نعم، إنّنا عرب عثمانيّون بالرغم من أنفسنا، لأنّ الجنسيّة وديعة قد انتقلت إلينا دون أن نشاطر آباءنا هذا الرأي فيها...". ويجد العريسي مسوّغًا لثورات البلقان كلّها، فهي نتيجة للمسّ بالنزعات القوميّة. ثمّ يُثني على المصلح العثمانيّ الكبير مدحت باشا الذي كان له فضل في إحياء العواطف العربيّة ما بين الشام والعراق منذ سنة 1870، ويمتدح أخيرًا "حزب الحرّيّة والائتلاف" بقيادة كامل باشا. وها هو يُضيف، في مكان آخر، فيقول: "فنحن العرب أمّة حيّة لا تقبل الاستعمار بوجه من الوجوه، فلنا في هذه المملكة المباركة ما لغيرنا بل وزيادة، لأنّ نفوسنا أكثر عددًا وأراضينا أكثر اتّساعًا...". ويمضي في الدفاع عن العنصر العربيّ، كما أنّه ينصح للاتحاديّين بأن يستيقظوا من أحلامهم، ويدعوهم إلى التشبّه، في إدارة البلاد، بدول الغرب، فيعرض لحال الإدارة في أمبراطوريّة "النمسا والمجر" على كثرة الأجناس فيها، ثمّ في مملكة البلجيك، فالدولة السويسريّة، فالولايات المتّحدة، فالمكسيك (يقول إنّه تحدّث في مقالة سابقة عن إنكلترة وائتلاف الأجناس فيها). والغرض الأساسي من كلامه هذا هو احترام القوميّات وخصوصيّات الأجناس في هذه الدول. ويختم العريسي افتتاحيّته بالقول "إنّ العربيّ لا يرضى أن يُساقَ سوق البعير مهما احتال الاتّحاديّون في الضغط، فقلب العربيّ ككرة المطّاط كلّما ضغطتَ عليها ارتدّت عليك صدامًا. فنحن باسم العرب نحيا، وباسم العرب نموت".
يبدو أنّ افتتاحيّة عبد الغني هذه كانت سببًا في تعطيل "لسان العرب" الذي لم يصدر منه غير ثلاثة أعداد. ذلك أنّه عُطِّل إثر صدور العدد "3-1085"، أي في 25 أيلول 1912؛ وعلى الأثر أصدر العريسي، في 28 أيلول 1912، صحيفة بديلة دعاها "الفتى العربيّ" الذي حمل عدده الأوّل الرقم "1-1086". ولا جديدَ في أعلى الصفحة الأولى من هذا العدد سوى أنّ المدير المسؤول أصبح الدكتور جميل حداد. كذلك صُدِّرت الصفحة الأولى هذه بافتتاحيّة وجيزة كتبها العريسي وحملت عنوان "نقضي الواجب ولو لقينا المصاعب". وقد قُدِّر لهذه الصحيفة أن تستمرّ أقل من شهرين، وصدر منها عشرات الأعداد، قبل أن يستعيد "المفيد" مسيرته.
ونمضي مع هذا الصراع ومع سيف التعطيل إلى أواخر سنة 1913، حين عُطِّل "المفيد" وصدر بدلاً منه، في 15 كانون الأوّل 1913، "فتى العرب" الذي حمل عدده الأوّل الرقم "1-1435"، وأصبح مديره المسؤول إبراهيم مجاهد الجزائريّ. أمّا الدوريّة والثمن وشروط الاشتراك والإعلان فما زالت على حالها، أي كما كانت قبل التعطيل. وقد افتتح العريسي العدد الأوّل من "فتى العرب" بمقالة افتتاحيّة حملت عنوان "فتى العرب: واجبه العامّ"، وشغلت أربعة أعمدة من الصفحة الأولى. ولهذه المقالة أهمّيّة كبرى، لأنّ العريسي حدّد فيها مذهبه في فهم "الجنسيّة العربيّة" (عنى بها العروبة أو الانتماء القوميّ)، فعرض أوّلاً لرأي الأ لمان في الرابطة القوميّة، وعرض ثانيًا لرأي الفرنسيّين فيها. ثمّ جمع، في تحديده "الجنسيّة العربيّة" هذه، بين العقيدتين الألمانيّة والفرنسيّة، أي أخذ "وحدة اللغة والنسب" من الألمان و"النزعة" (العاطفة أو الشعور بالانتماء) من الفرنسيّين. فالعربيّ، في رأيه، هو "من وصلته رابطة من نسب، ووحدة من لغة، وكان توّاقًا للعرب نزّاعًا إليهم، يغار عليهم غيرة البطل النبيل. فإذا استجمع هذا حقّت عليه كلمة الواجبات الوطنيّة لتأييد الحقوق العربيّة...". وقد رأينا العريسي يردّد أو يعدّد، في كلّ فقرة من فِقَر افتتاحيّته الطويلة، واجبًا من واجبات الفتى العربيّ. فالأسلوب، في المقالة كلّها، أسلوب وعظيّ إيحائيّ يكثر فيه النصح للشباب العربيّ وإرشاده وتوجيهه.
طالت مدّة تعطيل "المفيد" هذه المرّة، إذ استمرّ "فتى العرب" يصدر حتى أواخر شهر أيلول من سنة 1914؛ وآخر ما بين يدينا منه العدد "229-1663" الصادر يوم 25 أيلول 1914. بيد أنّ "المفيد" عاد، في أواخر أيلول أو في مطلع تشرين الأوّل 1914، عودة الوداع، ففي 22 تشرين الثاني 1914، دخلت الدولة العثمانيّة الحرب إلى جانب ألمانيا وأعلنت الحرب على الحلفاء، وبدأت الصحف تتهاوى تباعًا. وآخر ما بين يدينا من أعداد "المفيد" هو العدد 1709 الصادر في 15 تشرين الثاني 1914. وربّما صدر من "المفيد" أعداد أخرى بعد ذلك، لكنّنا نكاد نجزم أنّ هذه الصحيفة لم تكن تصدر في أوائل سنة 1915.
كان "المفيد" زورقًا في بحر متلاطم الأمواج، وكان العريسي في حرب ضروس مع الاتحاديّين، فقد قارعهم الحجّة بالحجّة، وقسا عليهم في مقالاته، وانحاز إلى "حزب الحرّيّة والائتلاف"، ودافع عن العنصر العربيّ دفاعًا شرسًا. وحين أُنشِئت "الجمعيّة العموميّة الإصلاحيّة لولاية بيروت" مطلع سنة 1913، كان العريسي من مؤسّيسها، وحين عُقِد المؤتمر العربيّ في باريس (حزيران 1913)، كان من أبرز أركانه. فهو بحقّ طليعة الشبّان المسلمين في بلاد الشام الذين ميّزوا بين الرابطة القوميّة والرابطة العثمانيّة، أو بين الولاء للأمّة والولاء للدولة. وهذه أمنيّة طالما تمنّاها روّاد العروبة الأوائل. ولمّا حان أوان سداد الديون، كان على من قال ذات يوم (23/9/1912) "باسم العرب نحيا وباسم العرب نموت" أن يموت فداء أُمّته، وهو مازال في ربيعه الخامس والعشرين. وهكذا قضى الفتى "العربيّ اليعربيّ" على عود المشنقة، يوم 6 أيّار 1916، في الساحة التي حملت في ما بعدُ اسم "ساحة الشهداء"، وهو يهتف بحياة "الجنس العربيّ" ويقول "باسمكم أيّها العرب أموت".
النّهار: العدد 23680، 27/4/2009
|