أمسِ خمرٌ واليومَ أمرٌ (1 و2)
ذاتَ يوم من ذات شهرٍ من ذات سنةٍ (1964)، دخل شابّ في مقتَبَل العمر حجرة الدرس في إحدى المدارس، ليحلّ محلّ شابّ آخر صرفه التلامذة بأسلوبهم الخاصّ (أي بنقفه بالطباشير)، وشرع يشرح نصوص القراءة ودروس القواعد، وكان هذا في إحدى سنوات المرحلة المتوسّطة. وذات يوم من السنة المدرسيّة نفسها (آذار 1965)، حان موعد درس الحال، فشرح المدرّس الشابّ هذا الدرس المطوّل بجدارة، وعلّم تلاميذه أنّ للدرس متمّماتٍ (مؤكّدات الحال) منها كلمة "كافَّةً". وذاتَ يوم من ذات سنةٍ (11 كانون الأوّل 2008)، وبعد خمسة وأربعين عامًا، وقد صار الفتى عجوزًا أشيَب، قرأ هذا العجوز كلاماً لعجوز آخر يكبره سنًّا، فلم يرَ ممّا تقدَّمَ الاسمَ أو تأخَّرَ عنه من ألقاب ونعوت غير اللغويّ، ولم يرَ ممّا كتب الرجل غير لغته، فحزَّ الأمر في نفسه، وتَساءلَ: "واسَوْأتاه! ماذا علّمتُ طوال خمسة وأربعين عامًا بين المدرسة والجامعة؟". وحسِبَ هذا العجوز الأشيَب أنّ تلاميذه الذين وطئوا عتبة الستّين أو كادوا، والذين يقرأون "النهار" يوميًّا، سيشكّون في مقدرة أستاذهم، بعدما قرأوا ما كتب اللواء سويد يوم 11 كانون الأوّل 2008، وبخاصّة أنّ "كافّة" كلمة "مبنيّة على الفتح لا محلّ لها من الإعراب".
ردّ عليّ "الأستاذ الدكتور واللواء الركن المتقاعد" ياسين سويد في "النهار"، يوم 11 شباط 2009، في حلقة أولى هي حلقة شتائم، فغربَلْتُها فلم يبقَ في الغربال قمح، وحسِبتُها "الخريطة" التي شغلت بال سويد، وأجهد نفسه في تمييزها من "الخارطة"، وهي عند البدويّ "قِرْبة" أو "ظَرْف" ينضَح، ولا عجَبَ فالإناء ينضَح بما فيه. فأنا لم يعنِني ممّا قرأتُ، يوم 11 شباط 2009، غير الشأن اللغويّ، وكلّ ما جاوز ذلك مردود على صاحبه، وما زال الإناء ينضح بما فيه. فأنا ما قاربتُ علوم اللواء سويد العسكرية، ولا دانَيتُ إمكاناته التاريخيّة، بل قاربتُ مادّة اختصاصي وما يعنيني.
قبل الردّ، أقول للواء سويد: "مَن عرفَ الباطل وقَبِلَه (أو قَبِلَ به) كان من أهل الباطل، ومَن سكتَ عن الباطل كان شيطانًا أخرس". وفي التعقيب على ما جاء في الحلقة الأولى من مقالة سويد أسجّل الملاحظات التالية:
1- كتب اللواء سويد مقالته الأولى (أخطاء شائعة يجب تداركها) التي نُشِرت في "النهار" يوم 11 كانون الأوّل 2008 كي يُقالَ إنّه كتب. فبعضُ ما دعاه خطأ شائعًا ليس بالخطأ (التقويم، الخريطة، كادَ أن، جمع "الأَزْمة" جمعًا سالمًا...)، وبعضه الآخر لم يُفصح سويد عمّا يُريد منه (الهامَّة والمهمّة، تَوَفَّر وتَوافَرَ)، وبعض ثالث هو من نوع الهَنات الهيِّناتِ إذا ما قيس بما هو أفدح وأخطر. فلِمَ توقَّف مثلاً عند فتح الزاي في "الأَزْمة" وأهمل فتح الفاء في "الصَّفْقَة"، وعند إضافة كلمة "كافّة" وأهمل إضافة كلمة "شَتّى"، أو جرَّ كلمة "وَحدَهُ" باللاّم (لِوَحدِهِ)، وصوابها "وَحدَهُ" لأنّها حال منصوبة؟
2- لم يكن سويد صادقًا حين قال في صدر مقالته : "هو الذي تعوّد رصدي في ما أكتب في الشأن اللغويّ...". إنّه يتحدّث عن "عادة"، وعليه أن يقول للقرّاء: متى كان هذا؟ وأين نُشِر كي يرَوا ما يمكن أن يُسمّى عادةً؟
3- يقول سويد إنّه يردّ عليّ "بكثير من الأدب"، فإذا بلسانه مبرد، وأنا في عُرفه "صيّاد يصطاد طرائده، جائع إلى الشهرة، مدّعي المعرفة، ذو صفاقة، أحمق، مُتحامل، غبيّ، كاذب ... إلخ". فماذا بقي للردّ "بقليل من الأدب" يا ياسين؟ أنا أعذر اللواء سويد وأسامحه، فقد نفّس غضبًا وأزال احتقانًا كاد يقتله. لكنّني أكتفي له بعبارة واحدة: "مَن حمل شرف الجنديّة صانه، ومَن صان شرف الجندية كان صادقًا في ما يقول ويكتب". أمّا أنا فحسبيَ القولُ إنّني كتبتُ ما يُرضي ضميري.
4- تنكّر سويد للحقيقة حين أنكر بعض ما جاء في مقالته الأولى، فقال بالحرف: "تناسى الدكتور (مدّعي المعرفة) أنّني لا أبحث في إعراب الكلمة ولا في وظائفها ...". وهو القائل في ختام الفقرة التاسعة من مقالته الأولى بالحرف: "لذا، فإنّ "كافّة" تأتي في آخر الكلام وليس في أوّله، وهي مبنيّة على الفتح، لا محلّ لها من الإعراب...".
5- خاطب اللواء سويد، في عنوان مقالته، "مدّعي المعرفة" بقوله "تسعى لاصطياد طرائدك كي تنشهر"، ونعته، في مكان آخر من عموده الطويل، بأنّه "جائع إلى الشهرة". لصيّاد الشهرة أو "الجائع إلى الشهرة" علامات تدلّ عليه يا "جنرال"! ومن هذه العلامات، على سبيل المثال فقط، عزوف "الصيّاد الجائع إلى الشهرة" عن التقديم لاسمه، في مؤلّفاته ومقالاته، بهمزة الأستاذيّة ( أ )، برغم أنّ له شرف الرتبة التي استحقّها، منذ زمن طويل، نتيجة بحوث مقوَّمة تقويمًا (تأمَّل التقويم) إيجابيًّا (تُمنَحُ أوَّلاً بإفادة بناءً على توصية لجنة أكاديميّة، ثمّ تصدر في مرسوم جمهوريّ). فماذا يقول من يصدّر اسمه بهمزة الرتبة (الأستاذيّة) بغير وجه حقّ ومن دون مسوّغٍ قانوني؟
6- أساء اللواء سويد إلى القرآن الكريم حين احتمى به أو اتّخذه سلاحًا في الانقضاض عليّ والتشهيربي، فبدا كمن يحرّض عليّ، وهذه علامة ضعف فيه. فقد جاء في ردّه هذا: "... أو أن تعتبر ما جاء في القرآن الكريم خطأً، وأنت دون مستوى النصّ القرآنيّ لغةً ومعنًى". هذا تحريض خبيث، فمقالتي بين يدي القارئ والحكم له وحده. وقد عاد ياسين إلى هذا التحريض ثلاث مرّات في الحلقة الثانية من مقالته. وهذه هي المرّة الأولى في حياتي التي أتعرّض فيها لمثل هذا التجنّي.
7- وكما رأينا اللواء سويد، في الفقرة السابقة، يحتمي بالقرآن الكريم ويستعديه عليّ، ها هو يحتمي بابن منظور وبالمعلّم بطرس البستاني والشيخ عبد الله العلايلي، فاتّهمني بالإساءة إلى الأعلام الثلاثة، لأنّني أستخفّ بهم وأرفض مَقولاتهم أو أدّعي التصحيح لهم. بيد أنّه ركّز كثيرًا على "أستاذه وأستاذي" الشيخ عبد الله (تجاه أستاذي وأستاذه وأستاذ الأساتذة في فقه اللغة العربيّة...)، وبالغ في الاحتماء به. فقد قال "لا يخجل من أن يعطينا، الشيخ العلايلي وأنا (؟)، درسًا في اللغة العربية..."، وقال "هذا الرأي لم يعجب دكتورنا مدّعي المعرفة الذي لم يتورّع عن أن يستغيب (يغتاب) الشيخ المتوفّى". وقال أيضًا "ليس باستطاعتك أن تخطّئ العلايلي لغويًّا كما خطّأتَ ابن منظور في لسان العرب وبطرس البستاني في محيط المحيط، لا لسبب إلاّ لأنّك دكتور وهم ليسوا دكاترة ...". هذا هرب (محزن) إلى الأمام، وهذا كلام مردود إلى صاحبه مرتدّ عليه؛ فقد "قَوَّلَني" سويد ما لم أقل، وما هذا كلّه إلاّ "سفاه شيخ لا حِلمَ بعده".
8- لقد شتمني اللواء سويد بلغة ركيكة، فأحزنني فقر لغته أكثر ممّا أحزنتني الشتائم التي كالها لي، وكلّها من "السباب الرديء". فمن نماذج اللغة الشوهاء التي استعملها في ردّه هذا الفعل "انشَهَرَ"، وهو فعل لم يرد في معجمات العرب، وتعديته الفعل "سعى" باللام وهو يتعدّى بـ"إلى". هذا في العنوان، أمّا في متن المقالة فنقرأ له "تمرَّستُ في إجادة اللغة"، والفعل "تمرَّسَ" يتعدّى بالباء، فضلاً عن أنّ التمرُّس لا يكون بالإجادة. ونقرأ له "يستغيبُ الشيخ العلايلي"، والصواب "اغتابَ يغتابُ". ونقرأ له "الشيخ العلايلي وأنا"، والصدارة في العربيّة للضمير المنفصل دائمًا. ونقرأ له استعماله "دونَ" من غير حرف الجرّ "من"، واستعماله "أَيَّة"، وفصيحها "أيّ" في المذكّر والمؤنّث، واستعماله "حَسبَما" وفصيحها "بحَسَبِ ما ..."، واستعماله الفعل "تَتَلمَذتُ على أيدي"، وفصيحه "تَلمَذْتُ لفلانٍ أو على فلان"، ووصفه مقالتي بـ"العصماء" استهزاءً، وهذه صفة مشبّهة (مذكّرها أعصمُ) أُخِذت من الثلاثيّ اللازم "عَصِمَ"، ويوصف بها الظبي أو الفرس أو غيره؛ أمّا المعنى الذي يقصد فهو من الثلاثيّ المتعدّي "عصَمَ يعصِمُ عِصمةً"، وهذا لا تؤخذ منه صفة على وزن "أفعلُ فَعْلاء". وردّد صاحبنا "رغمَ أنّ"، وفصيحها "على الرّغم من كذا أو برغم كذا"، وقال لي "أنصحك ... أن تعود إلى المصادر ..."، والأفصح أن يقول "أنصح لكَ ... بأن تعودَ ...". وليس هذا كلّ شيء، فقد بقي ما يُصحَّح له. فليت اللواء سويد شتمني بعربيّة قريش، فلو فعل لسامحته، بل لفرحت به وعددته في مصافّ اللغويّين.
9- شهد اللواء سويد لنفسه بأنّه "تَتَلمَذ (تَلمَذَ) على أيدي أساتذة في اللغة العربيّة يحتاج الدكتور الياس (وهو حديث النعمة بهذه اللغة) إلى وقت طويل لكي يبلغ مستواهم ...". فهو قد أتقن العربية وأجادها، وبات يُعرَف بين زملائه الضبّاط بأنّه "ضابط اللغة العربيّة". وهو من "تمرّس في إجادة (بإجادة) اللغة التي أحبّها منذ طفولته". ولمّا توطّدت أواصر الصداقة بينه وبين العلاّمة العلايلي، وفّرت له "التعمّق في اللغة العربيّة وإتقانها". فهو إذًا يشهد لنفسه بأنّه أتقن العربيّة إتقانًا تامًّا. وبما أنّ للواء سويد كلّ هذا، فمن الذي غَلِطَ الغلطة القاتلة حين قال في "كافّة" إنّها "مبنيّة على الفتح لا محلّ لها من الإعراب"؟
لقد أثار ردّ اللواء سويد، "بكثير من الأدب"، فضولي، فبات لي في الحياة أُمنيّة وحيدة غالية، وهي أن أعرف كيف يكون الرد "بقليل من الأدب". ولَسَوف نرى، في ما يلي، النِّعَم التي أغدقها عليّ في الحلقة الثانية من ردّه، ومن خلال مَقولاته اللغويّة أو مسائله التِّسع.
رفضت إدارة تحرير "النّهار" نشر هذه المقالة بجزأَيْها
|