مَن يقتل لغته؟
حين سمعتُ، أوّلَ مرّة، تعبير "فعل أمر"، تساءلتُ "ما فعل الأمر هذا؟ مَنِ الآمر؟ ومَنِ المأمور؟ أو قلْ: مَن يأمر مَن؟". وتساء لتُ أيضًا "أهو فعل أمرٍ أم فعل الأمر؟". ثمّ علمتُ من بعضهم أنّ ثمّةَ جمعيّةً تغار على العربيّة الفصحى، لكنّها تعمل في خدمة "الأمر" وتحت إمرته. وبعد مدّة، قرأت في "النهار" (يوم 28 كانون الثاني 2010) مقالة للأستاذ نزيه فوّاز حملت عنوان "فعل حبِّ بدل فعل أمر"؛ وقد خالف فيها الأستاذ فوّاز بعض ما قيل في المؤتمر الصحافيّ الأوّل يوم 11 كانون الثاني 2010، والأهمّ في نظري أنّه دعا إلى "فعل حبّ" بدل "فعل أمر"، لأنّ الناس تنفر من الأمر وفعل الأمر.
وفي 4 حزيران 2010، عُقِد مؤتمر صحافيّ ثانٍ، هو في الحقيقة مهرجان خطابيّ أكثر من كونه مؤتمرًا صحافيًّا، فكان اللافت فيه ما حُشِد له من أسماء، والجديد فيه انتظام مؤسّسة الفكر العربيّ في حلف مع "فعل أمر"، ودعوتهما إلى مهرجان لغويّ في 26 حزيران 2010. وقد قرأت في "النهار"، يوم 5 حزيران، أنّ عنوان المهرجان الآتي (26 حزيران) سيكون "نحن لغتنا"، فلم أفهم، فردّدت الجملة وقلبت الترتيب (نحن لغتنا، لغتنا نحن)، فاستغلق الأمر عليّ أكثر. وقبل المهرجان بأيّام، رأيتُ في بعض الساحات والشوارع شرائط عريضة، كتلك التي يمدّها رجال الأمن، وقد كُتِب عليها "لا تقتل لغتك"، فهالني الأمر، وهتفت صارخًا "باطل يا عرب! مَن يقتل لغته؟". لقد شعرتُ حقًّا بالحَيْرة أوِ الضياع بين "فعل الأمر" و"نحن لغتنا" و"لا تقتلْ لغتك"، وشككت في قدراتي أو معارفي اللغويّة. وها أنذا الآن أسأل برويَّةٍ وتعقّل: "مَن يقتل لغته؟ هل تُقتَل اللغة قتلاً؟ وكيف تُقتَل؟". اعقلوا يا قوم، واعتدلوا في خطابكم! فقد كان خيرًا لكم ولنا أن تقولوا "لا تُهملْ لغتك" أو "لا تتخلَّ عن لغتك". لكنّه الإرث اللبنانيّ في الخطاب.
وكان يوم المهرجان اللغويّ التربويّ (وربّما الاستعراضيّ)، ومن وحي ما كان ذاك اليوم، وما قرأتُ في اليوم التالي، أقول للأخت الدكتورة منيرة الناهض، وقد تعارفنا قبل عام أو أكثر: "لو أنّ مهرجانًا كهذا، وإن استُعيد عامًا بعد عام، ينقذ لغة الضاد من الحال التي هي فيها، لكانتِ العربيّة اليومَ بألف خير، لأنّنا أهل المهرجانات والتظاهرات؛ ولو أنّ مهرجانًا كهذا ينهض باللغة الأمّ ويُعيد إليها مجدًا غابرًا، لكنتُ وبعضَ الزملاء نصبنا "خيمة اللغة" وافترشنا الأرض في شارع الحمراء، أو لكنّا حوّلناه إلى ميدان تظاهر". وأكشف الآن للأخت العزيزة أنّني طرحت في رحاب "مؤسَّسة الفكر العربيّ"، قبل ستٍّ أو سبعٍ من السنين، فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر يكون غرضه الأوحد أو هدفه الأسمى البحث في سبل النهوض باللغة العربية (وليس الإنقاذ فورًا كما كان في مؤتمر الأمس القريب)، فلم ألقَ ردًّا، وهذا يعني أنّ اقتراحي لم يلقَ استجابة. وفي لفتة بالغة الخصوصيّة، أقول إنّ ارتقاء الدرجة الأولى من درجات السلّم أو الخطوة الأولى على درب الأميال الألف تكون في أن تُفرج الأخت النائبة، وقد حضرتِ المؤتمر الصحافيّ الأخير (4 حزيران)، عن كلمة "النائبة" في وسائل الإعلام، لأنّ "النائب" اسم عربيّ مشتقّ يُؤنَّث على "النائبة" حتمًا، كما يُؤنَّث "الكاتب والشاعر والعامل والدارس والنائم والصائم ... إلخ". فعسى أن يبدأ كلٌّ منّا بنفسه وبما في نفسه ..!
النّهار: العدد 24124، 5/8/2010
|