بيروت: درّة في تاج آل عثمان
(خاتمة بحث قُدِّم في مؤتمر "بيروت رائدة الحرّيّات في الشرق"، وعنوانه "حرّيّة الصحافة والنشر في بيروت
من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالميّة الأولى")
بيروت ثغر، والثغور كالأفواه أسرع إلى التلقّي، وكالمِعَد أسرع إلى الهضم والامتصاص. وبيروت هي الأسرع دومًا إلى تلقّي كلّ جديدٍ وافدٍ، وإلى التقاط ما يقذف به البحر، ولو كان أشلاءً أو سقطَ متاع. ومن شِيَم الثغور أن تفتح الصدر رحبًا للموج، قيأتيها في كلّ لحظة بجديد. ففي هذه المدينة الصغيرة حطّت البعثات التبشيريّة رحالها باكرًا، فحلّ فيها الآباء اليسوعيّون فالآباء اللِّعازاريّون أوّلاً، ونزل فيها المرسلون الأميركان ثانيًا. وإذا كانت هذه المدينة الصغيرة لم تشهد تأسيس أوّل مطبعة في الشرق، فحسبُها أنّها استقبلت في مينائها الصغير، ومع بدايات العقد الرابع من القرن الثامن عشر، أوّل آلة طابعة بالحرف العربيّ، أتى بها الأب فروماج اليسوعيّ لمطبعة الشمّاس عبد الله زاخر، وحسبُها قول بطرس البستاني، سنة 1859، إنّ فيها سِتّ مطابع، في حين لم يكن في بعض المدن العربيّة (بعضها فقط) أكثر من مطبعة واحدة. وبيروت الحديثة هذه هي السبّاقة بين المدن العربيّة كلّها إلى افتتاح المدرسة الحديثة، ومنها مدرسة البنات الأولى (مدرسة مسز طمسن)، والمدرسة الوطنيّة الأولى (مدرسة بطرس البستاني). وهي التي احتضنت الجمعيّة العلميّة الأولى (الجمعيّة السوريّة)، وأصدرت الصحيفة الأولى (حديقة الأخبار)، وطبعت أوّل معجم حديث (محيط المحيط)، وأوّل موسوعة علميّة حديثة (دائرة المعارف)، وأنشات أوّل كلّيّة جامعيّة (المدرسة السوريّة الكلّيّة الإنجيليّة، كلّيّة القدّيس يوسف). ولأنّ بيروت مدينة حرّة ومفتوحة، كانت سياستها سياسة حرّة، وصحافتها صحافة حرّة، وتربيتها تربية حرّة، وثقافتها ثقافة حرّة. ولأنّها ثانيًا مدينة حرّة ومفتوحة، أُنشِئت فيها أوّل جمعيّة سرّيّة (حوالى 1880) وزّعت منشورات هاجمت فيها الأتراك، ودعت، تلميحًا أو تصريحًا، إلى التخلّص من الحكم العثمانيّ. ولأنّها ثالثًا مدينة حرّة ومفتوحة، رُفِع فيها، لأوّل مرّة، شعار مملكة عربيّة في بلاد الشام يكون على رأسها الأمير عبد القادر الجزائري، وحُكِي عن مؤتمرات سرّيّة وعن مراسلات كان ليوسف بك كرم إسهام فيها. ولأنّها رابعًا مدينة حرّة ومفتوحة، كتب أحدهم، في أواخر القرن التاسع عشر، أنّ المارّ أو السائر في شوارع بيروت، وهي يومئذ أزقّة ترابيّة أو شوارع رُصِفَ بعضها بحجارة سودٍ، يسمع هنا العربيّة، وهناك الفرنسيّة، وهنالك الإيطاليّة، وثمّة التركيّة أو اليونانيّة أو الإنكليزيّة. ولأنّها خامسًا مدينة حرّة ومفتوحة، أنجبت وخرّجت صحافيّين أحرارًا هُجِّر بعضهم في العهد الحميديّ، فاصدر صحافة حرّة في مصر وفي عواصم الغرب الأوروبيّ، ثمّ في ما دُعِي بالمهجر أو العالم الجديد. ولأنّها سادسًا مدينة حرّة ومفتوحة، كان نشر الكتب فيها حرًّا، وطبع الكتب فيها حرًّا، فلا رقابة مسبقة على الطبع والنشر كما هي الحال في المدن العربيّة الأخرى. ولأنّها سابعًا مدينة حرّة ومفتوحة، قال فيها الأمبراطور الألمانيّ غليوم الثاني، حين زارها سنة 1898، إنّها "درّة في تاج آل عثمان". ولأنّها ثامنًا مدينة حرّة ومفتوحة، أُنشِئت فيها أوّل جمعيّة عموميّة إصلاحيّة سنة 1913. ولأنّها تاسعًا مدينة حرّة ومفتوحة، حفِظ لها الأتراك جرأتها في إنشاء الجمعيّة العموميّة الإصلاحيّة، وفي الدعوة إلى عقد مؤتمر باريس، فكان معظم الشهداء، سنة 1915 و1916، من خيرة شبّانها وصحافيّيها. فيا سبحان الله! حتّى الشهادة لم تُرِدْ أن ينافسها فيها أحد. ولأنّها عاشرًا مدينة حرّة ومفتوحة، تعانق فيها المسجد والكنيسة، وتآخى فيها الشيخ والخوريّ منذ القرن التاسعَ عَشَرَ. ولأنّها أخيرًا مدينة حرّة ومفتوحة، سُمِّيَت عاصمة لبنان الكبير، فإذا هي عاصمة الدولة العربيّة الوحيدة التي على رأس السلطة فيها حاكم نصرانيّ. هذه هي بيروت التي غدت في القرن العشرين جامعة العرب، وناشر العرب، ومستشفى العرب، ومصرف العرب وسوقهم الماليّة، بل قلْ إنّها الرئة التي بها يتنفّسون.
وأخيرًا، احتفلت الجامعة الأميركيّة في بيروت، سنة 1991، بذكرى مرور مئة وخمس وعشرين سنة على تأسيسها. وبعدما انتهت الاحتفالات بما فيها من أُبَّهةٍ واستعراض ومباريات خطابيّة، انبرى قلم أحدهم يُهدي شيئًا إلى الجامعة في يوبيلها، فخطّ مقالة مطوّلة نُشِرت على ستّ حلقات في جريدة "النهار". وقد روى، في إحدى الحلقات، أنّ أحمد شريف، مراسل جريدة "طنين" التركية في الآستانة، جال، سنة 1911، في حَرَم "المدرسة السوريّة الكلّيّة الإنجيليّة"، وطاف بين مبانيها وحدائقها، ثمّ أرسل إلى جريدته مقالة عنوانها "المدارس الأجنبيّة في بيروت". وممّا جاء فيها أنّ سماء بيروت مزيَّنة بالنجوم اللامعة والشموس الساطعة التي تبهر الأبصار؛ بيد أنّ وراء هذه السيّارات كلّها سعيًا شيطانيًّا. فإذا ما تأمّل الناظر مليًّا رأى في الأفق المظلم البعيد قمرًا خجولاً يريد الإشراق فما يجسر، وما هذا إلاّ الطالع العثمانيّ في بيروت.
هذه هي "جوليا فيلكس"، في عهد الرومان، و"الدرّة في تاج آل عثمان"، و"خريدة" العرب في هذا الزمان. ولأنّ بيروت كلّ هذا وذاك، حُسِدت، وظُلِمت حين رُمِيَت بألف حجر وحجر.
النّهار: العدد 23963، 18/2/2010
|