الدكتور جوزيف الياس

فهرس: صفحة المدخل     سبرة علميّة       ملاحق     صور المؤلفات العامّة     صور الكتب المدرسيّة     مقالات جديدة    للاتصال بنا




أيُّ "عهدٍ نَبَويٍّ" هذا؟




قرأت مقالة الأستاذ فيليب سكاف التي نُشِرت في "النّهار"، يوم 19 تشرين الأوّل 2011، تحت عنوان "العهد النبويّ والمسيحيّ الخائف". وفيها أنّ وفدًا من دير القدّيسة كاترينا (يعني رهبان الدير) جاء الرسول العربيّ "خائفًا وطالبًا الحماية والأمان"، فأعطاه الرسول عهدًا ما زال الدير يحتفظ به في مكتبته. يلي ذلك النصّ الحرفيّ للعهد الذي جاء في ثلاثة عشر سطرًا.

وتوقّعتُ في حينه أنّني سأقرأ ردًّا أو توضيحًا أو تعقيبًا من أحد الأئمّة أو الفقهاء، فما كان لي شيء من هذا. لكنّني قرأت في "النهار"، يوم 30 تشرين الأوّل 2011، مقالة الدكتور محمود حدّاد التي حملت عنوان "المؤرّخ أمام الوثائق الدينيّة والطائفيّة"؛ وفيها إلمام سريع بما جاء في مقالة الأستاذ سكاف تبدّى في أنّ الكاتب يجهل مصدر العهد الذي نُشِر، وفي أنّ الفتوحات نَشِطت في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب، ومن المُستَبعَد أن يأتي وفد من دير القدّيسة كاترينا طالبًا الحماية والأمان قبل أن يبدأ عهد الفتوحات. وتبدّى ذلك أيضًا في اقتناع الكاتب بأنّ "العهد النبويّ" المنشور "غاية في البلاغة والجمال والتسامح وقبول الآخر ...". وبرغم بعضٍ من "الشكّ التاريخيّ"، لم أرَ في ما قرأت للدكتور حدّاد ما يروي الغليل.

أنا هنا لست في معرض الردّ على الأستاذ سكاف، فسِوايَ أولى بالردّ، لكنّني في معرض التعليق أو التعقيب على ما قرأت؛ فنصّ العهد هذا لم يردْ في السيرة النبويّة، والنصّ الذي قرأت مأخوذ من موقع إلكترونيّ بشيء من التصرّف، أي لم يؤخذ كما جاء بالحرف. والوقائع التاريخيّة تُثبت أنّ مصر فُتِحت عام 20 للهجرة، وأنّ الفتح تمّ على يد القائد عَمرو بن العاص، وفي عهد الخليفة الراشديّ الثاني عمر بن الخطاب، أي بعد وفاة الرسول بتسع سنين. فهل قصد رهبان الدير الرسول الكريم قبل فتح مصر بعقد من السنين أو ما يزيد؟ أمّا إذا افترض أحدنا أنّ هذا العهد قد صدر عن الخليفة عمر، فالتاريخ لم يرو لنا أنّ الخليفة عمر أعطى عهدًا غير ذاك الذي أعطاه البطريرك صفرونيوس (بطريرك القدس)، ودُعِيَ "العهد العُمَريّ".

وأمضي الآن إلى ما أراه الأهمّ، وما يعنيني شخصيًّا، وهو لغة العهد التي أكاد أجزم أنّها ليست لغة الرسول، ولا لغة الخلفاء الراشدين والمسلمين الأوائل، فلغة هؤلاء امتازت بالإيجاز الشديد وبفصاحة اللفظ وبلاغة العبارة؛ وهذه ميزات لم أرها قد توافرت في لغة العهد المنشور. ففي النصّ حشوٌ وتبسيطٌ قارَبَ الإسفاف، وفي أسلوبه ما يُثير الشُّبهة. فمن عادة العرب أن تقول "في مشارق ِ الأرض ومغاربِها"، لأنّ المشرق لمكان الشروق والمغرب لمكان الغروب، ولم تقرنْ يومًا المشرق والمغرب بالشمال والجنوب. ولست أحسب أنّ المسلمين الأوائل استعملوا كلمة "حبيس" للناسك المتعبّد، فلها في المعجم العربيّ القديم معنًى آخر. و"السايح" في نصّ العهد (ولا سايح من سياحته) هو "السائح"، ولهذا المشتقّ، في القرآن الكريم وفي لغة المسلمين الأوائل، معنًى آخر غير المعنى الذي أُريدَ له هنا. أمّا كلمة "كافّة" (... إلى كافّةِ الناس أجمعين) فلم يستعملْها المسلمون الأوائل مضافةً إلى مجرور بعدها، ومثلها كلمة "جميع" (... ولجميع مَن ينتحل ...) التي ابتعد استعمالها المعاصر عن المعاني التي أُريدَت لها قديمًا. لذا أستميح الأستاذ سكاف عذرًا إذا قلت إنّني أشكّ في صحّة الإسناد، وفي أن يكون هذا النصّ عهدًا نبويًّا..!

النّهار: العدد 24581، 2/12/2011

 

جميع حقوق النشر محفوظة dr.josephelias.com