العلويّون: سؤال يستدعي أسئلة
أدهشني التحقيق المطوَّل الذي كتبته السيّدة رندة حيدر، ونُشِر في جريدة "النّهار" يوم 6 تشرين الثاني 2011، تحت عنوان "مَن هم العلويّون؟"، وأحزنني ما فيه من تسرُّعٍ وسطحيَّة وَفَّرا للقارئ فرصةً ذهبيّةً للطعن فيه وعليه. لكنْ، وقبل أن أعرض مآخذي على ما جاء في هذا التحقيق، أسجّل ملاحظاتي على اثنتين من الصُّوَر الثلاث التي حُشِرت في صفحته. فتحتَ صورة شاحنة عسكريّة على متنها جنود، نقرأ، بكل أسف، عبارة "العلويّون يحتلّون مراكز مهمّة في الجيش السوريّ". فهل يكون اعتلاء شاحنة عسكريّة مركزًا مهمًّا في الجيش السوريّ؟ وكيف عرف ناشر الصورة أنّ هؤلاء الجنود علويّون؟ وتحت الصورة الثانية التي تمثّل جماعةً من الناس في ساحة أو شارع، وهي تحمل صورة الرئيس السوريّ، نقرأ عبارة "متظاهرون علويّون يرفعون صورة الرئيس الأسد". فهل تكون كلّ جماعة من الناس تحمل صورة الرئيس السوريّ علويّة الانتماء؟ وإن كان هؤلاء الناس في شوارع دمشق أو حلب، فماذا يقول ناشر الصورة والمعلِّق عليها؟
أمّا ملاحظاتي على تحقيق السيّدة حيدر فكثيرة، بيد أنّني أكتفي بالأهمّ:
1- تقول الكاتبة، في مقدّمة تحقيقها، إنّ ثمّة "صراعًا طائفيًّا قديمًا على السلطة بين الطائفة العلويّة التي تنتمي إليها عائلة الأسد، وبين الأكثريّة السنّيّة التي حكمت سوريا لعقود سابقة، وتعتبر نفسها اليوم مُهمَّشة ومُضطَهَدة من نظام الأسد". إنّ الكلام على أكثريّة أو أقلّيّة صحيح، لكنّ حديث الصراع على السلطة مرفوض تمامًا، فلم يكن ثمّة مجال في الماضي لصراع الطائفتَين على السلطة، لأنّ العلويّين كانوا دومًا في "الجمهوريّة السوريّة" أقلّيّة عدديّة لا أذكر أنّها تجاوزت في عهدَي الانتداب والاستقلال العشَرة في المئة. وفي هذه الحال، لا مجال لأيّ منافسة أو صراع.
2- تستعمل الكاتبة في وصفها للعلويّين كلمة "هَراطقة" (الهرطقة عند المسيحيّين هي البِدعة في الدين)، وهذه مفرَدَة ليست من الألفاظ المعروفة أو المُتَداوَلة في الفقه الإسلاميّ.
3- تقول الكاتبة في تحقيقها: "يعيش القسم الأكبر من العلويّين اليوم في تركيا وسوريا، كما يتوزّعون في العراق وفلسطين، بالإضافة إلى وجودهم في الولايات المتّحدة ودول الاتّحاد الأوروبيّ". إنّ معلومة وجود علويّين في العراق وفلسطين معلومة جديدة عليّ؛ أمّا وجودهم في الولايات المتّحدة ودول الاتّحاد الأوروبيّ فمبعثه الهجرة. لكنْ، ما الذي يمنع أن يكون ثمّة علويّون في أميركا اللاتينيّة، أو في دول أوروبيّة أخرى، أو في دول أفريقيا (ومنها مصر والشمال الأفريقيّ)، أو في دول الخليج العربيّ، أو في أوستراليا، أو في دول شرق آسيا؟ هؤلاء جميعًا، في رأيي، مهاجرون أو مغتربون اغترابًا دائمًا أو موقّتًا. أمّا علويّو لبنان فلي عودة إليهم.
4- تقول الكاتبة إنّ وضع العلويّين "لم يتحسَّنْ إلاّ مع نهاية القرن التاسع عشر، عندما قام العثمانيّون ببعض الإصلاحات، ومنحوهم شيئًا من الاستقلال الذاتيّ". فالإصلاحات العثمانيّة ترجع إلى ما قبل نهاية القرن أو أواخره، أي إلى عهد السلطان عبد العزيز، ولا إصلاحات في العهد الحميديّ الذي بدأ عام 1876. ولم نعرف أنّ ثمّة إقليمًا في بلاد الشام مُنِح إدارة ذاتية أو ما يشبه الاستقلال الذاتيّ غير جبل لبنان. ومنذ عام 1888، أصبح سنجق اللاذقيّة تابعًا لولاية بيروت، فأين هذا من الاستقلال الذاتيّ؟ كلّ ما في الأمر أنّ المُصلح الكبير مدحت باشا الذي عُيِّنَ، عام 1878، واليًا على سورية (ولاية سورية) التقى في حماة المئات من شيوخ الطائفة العلويّة ووجهائها، ووعدهم بجعل سنجق اللاذقيّة متصرِّفيّةً مركزها "الشيخ بدر". لكنّ الدسائس فعلت فعلها، فأُقصِيَ مدحت باشا قبل أن يُتِمَّ السنة الثانية من ولايته، ودخلت ولاية سورية في ظلام العهد الاستبداديّ.
5- تقول الكاتبة: "لكنّ مخاوف العلويّين تجدّدت مع انتهاء الانتداب الفرنسيّ، والإعلان عن استقلال سوريا، وإلغاء الدولة العلويّة في كانون الأوّل السنة 1936 ...". هذا كلام مثير للدهشة والاستغراب، فالانتداب الفرنسيّ على سورية لم ينتهِ عام 1936، ولم يُعلَن، في تلك السنة، استقلال سورية. فكلّ ما في الأمر أنّ سنة 1936 كانت سنة المفاوضات التي آلت، في أيلول من العام نفسه، إلى توقيع المعاهدة السوريّة الفرنسيّة. بيد أنّ الأهمّ هو إنهاء الإدارة الفرنسيّة المباشرة لبلاد العلويّين التي أصبحت، في أواخر عام 1936، محافظة سوريّة دعيت محافظة اللاذقيّة وأُرسِل إليها مُحافظ من أركان الكتلة الوطنيّة هو مظهر باشا رسلان. وفي عام 1939، أعاد المفوّض السامي وضعها تحت الإدارة الفرنسيّة المباشرة.
6- وتُضيف الكاتبة، في الفقرة نفسها، قائلة بالحرف: "وبرزت المقاومة العلويّة للحكم السنّيّ في ثورة سليمان المرشد السنة 1939 و1946 وثورة ابنه 1952". والكلام هنا مثير للدهشة والاستغراب أيضًا، فسليمان المرشد شخص ادّعى الألوهة، وتبعه جمع كثير من العلويّين؛ وهو لم يُمثِّلْ، في يومٍ من الأيّام، الأُنموذج الثائر على الفرنسيّين أو على المسلمين السنّة. وقد أُعدِمَ عام 1946، ثمّ قُضِيَ، عام 1952، على فتنة ابنه الثاني مُجيب (ابنه الأكبر هو الفاتح). لكنّ أتباع المرشد ومُريديه ما زالوا موجودين ومنتشرين في المناطق العلويّة من سورية.
7- تقول الكاتبة: "تُعتَبَر الحقبة الزمنيّة ما بين 1946-1963 فترة السيطرة السنّيّة على الحكم في سوريا، وبدء اندماج الطائفة العلويّة بالدولة وصعودها ...". ما المعايير التي سمحت للسيّدة رندة بهذا التحديد الزمنيّ الدقيق؟ ولمن كانت الغلبة أو السيطرة على الحكم في سورية قبل عام 1946؟ وأستطرد لأسأل السيّدة رندة: هل كانت دفّة الحكم في سورية من عام 1963 إلى عام 1966 بأيدي العلويّين وحدهم؟ وحتّى بعد حركة 23 شباط 1966 التي شهدت بروزًا للضبّاط العلويّين، وفي مقدّمهم حافظ الأسد وصلاح جديد، هل أصبح العلويّون وحدهم القابضين على زمام السلطة في سورية؟
8- وتُضيف الكاتبة قائلةً "إنّ العلويّين لعبوا دورًا مهمًّا في انقلاب آذار 1963، كما قاموا بانقلاب 1966، لكنّ نفوذهم تجلّى مع الانقلاب الذي قام به الرئيس حافظ الأسد السنة 1973...". السيّدة رنده تتحدّث دومًا عن الطائفة وهي تعني قلّةً من الضبّاط العلويّين. وصحيح أنّ هؤلاء الضبّاط أسهموا كغيرهم من الضبّاط البعثيّين والناصريّين في حركة 8 آذار 1963 التي أتت بحزب "البعث العربيّ الاشتراكيّ" إلى السلطة؛ كما أنّ لهم يدًا طولى في إنجاح حركة 23 شباط 1966، إنّما ليسوا وحدَهم صانعيها. أمّا الانقلاب الذي قام به الرئيس حافظ الأسد عام 1973 فأعجوبة السيّدة رندة، وعلامة الجهل الكلّيّ بالتاريخ. فالعام 1973 هو عام حرب تشرين (أو حرب أكتوبر، أو حرب العبور)، والانقلاب الذي تعنيه الكاتبة هو حركة 16 تشرين الثاني 1970 التي دُعِيت الحركة التصحيحيّة، والتي أتت بالفريق حافظ الأسد إلى رأس السلطة.
9- تقول الكاتبة بالحرف: "في السنة 1949، شكّل العلويّون أكثريّة الجنود في الجيش وثلثي الضبّاط ...". فإذا لم يكن لي أن أرفض هذا الزعم رفضًا قاطعًا، فمن حقّي أن أسأل: من أحصى عديد الجيش السوري بحسب الطوائف، وهو الجيش الفتيّ الذي لم يمضِ على تأسيسه غير بضع سنين؟ وما هذه الدقّة في إحصاء عدد الضبّاط وطوائفهم يومئذ؟
10- تنقل الكاتبة عن باتريك سيل قوله في كتابه "الأسد" إنّ الرئيس حافظ الأسد طلب إلى الإمام موسى الصدر "إصدار فتوى تقول إنّ العلويّين هم من الشيعة"، وإنّ الإمام الصدر "أصدر هذه الفتوى في السنة 1974". وتُضيف، نقلاً عن سيل، أنّ "إصدار هذه الفتوى أزال العقبة الأخيرة التي كانت تعترض طريق حافظ الأسد إلى الرئاسة". لكنّ الجميع يعرف أنّ الأسد هو رأس السلطة والحاكم الفعليّ لسورية منذ 16 تشرين الثاني 1970، أمّا انتخابه رئيسًا للجمهوريّة فكان عام 1971.
11- شغل تحقيق السيّدة رندة في "النهار" صفحة كاملة، ومن عناوينه الفرعيّة "العلويّون في تركيا"، ثم "العلويّون في سوريا"؛ وفي حقل خاصّ في أسفل الصفحة، نقرأ عنوان "أرقام العلويّين في الخارج" (تعني العدد). وهنا توقَّفتُ سائلاً متسائلاً، ورحت أبحث، في الصفحة كلّها، عن ذكر أو إشارة إلى العلويّين في لبنان، فخاب مسعايَ وبؤتُ بالفشل. فإن اعترضت الكاتبة قائلة إنّهم من أصول سوريّة، سألتُها عن علويّي ألمانيا (600000)، وعلويّي فرنسا (150000)، وعلويّي النمسا (60000). أَفَلَيس هؤلاء من أصول علويّة سوريّة وتركيّة؟ لكنّ الكاتبة تختم حقلها الخاصّ هذا في أسفل الصفحة قائلةً: "وتُشير بعض الأرقام إلى أنّ مجموع عدد العلويّين في العالم يبلغ 80 مليونًا". فهذا العدد المدهش وغير المعقول يطرح مسألة أخرى تقتضينا البحث والتبصّر. فإذا كان علويّو سورية وتركيا والمَهاجر أو بلدان الاغتراب دون الثلاثين مليونًا، بل دونها بكثير، فأين تُوَزّع السيّدة رندة الخمسين مليونًا الأخرى؟ فإن صحّ هذا الزعم، وهو ما زال في نظري زعمًا، فالتحقيق ناقص والدراسة مُشوَّهة لأنّها عمَّمَت حكم "البعض" أو الجزء على "الكلّ"، وقد كان عليها أن تعود إلى مراجعَ أُخرى أكثرَ دِقَّةً وشمولاً، ومنها "تاريخ العلويّين" لمؤلّفه محمّد أمين الطويل. ولمّا كان الشيء يُذَكّر بنقيضه، تذكّرت، وأنا أقرأ عن الثمانين مليونًا، قصّة المليونين. فقد قرأت، ذاتَ يومٍ، في "موسوعة السياسة" التي أشرف على تحريرها الدكتور عبد الوهّاب الكيّالي، وصدرت عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر (بيروت) في سبعة مجلّدات، أنّ عدد العلويّين في العالم هو مليونا نسمة لا غير (مج 4، ص 181). ومن المؤكّد أنّ محرّر هذه المادّة في الموسوعة يُحصي، على وجه التقريب، علويّي سورية، ويجهل وجود العلويّين في تركيا وفي بلدان أخرى. أمّا محمّد أمين الطويل فيُحصي في كتابه العلويّين العرب فقط، فإذا بعددهم، في أواخر القرن التاسعَ عَشَرَ وأوائل القرن العشرين، لا يَتَعَدّى ستّ مئة ألف نسمة.
12- هذا التحقيق الذي أعدَّته السيّدة رندة، وهذه الدراسة التي كلَّفَتْها جهدًا، كانت تقتضيها أن تتحدّث عن العشائر العلويّة في سورية، وهي كثيرة أهمُّها أربع هي:
1- عشيرة الحدّادين: ومن عائلاتها: آل كنج، آل جديد، آل مخلوف، آل الحامد، آل يونس (أو اليونس)، آل إسماعيل، آل عبد الرحمن، آل حبيب، آل نصّور، آل درغام.
2- عشيرة الخيّاطين: ومن عائلاتها: آل العبّاس، آل المرشد، آل ناصر، آل حرفوش، آل الحكيم، آل تقلا، آل عمران، آل الخَيِّر، آل زيدان، آل العبد الله، آل معلاّ، آل ياسين، آل سليمان.
جـ- عشيرة المَتاورة: ومن عائلاتها: آل الهوّاش، آل العلي (الشيخ صالح)، آل كامل، آل الجردي، آل النقَّري، آل معروف، آل الأحمد، آل خضّور، آل عسّاف، آل ديّوب، آل الخليل.
8- عشيرة الكلبيّة: ومن عائلاتها: آل أسد (أو الأسد)، آل جنيد، آل خير بك، آل إسماعيل، آل رسلان، آل حسّون، آل إسبر، آل عبّاس، آل خضّور، آل الموعي، آل سويدان.
وفيما كنت أُدوِّن ملاحظاتي على "تحقيق" السيّدة رندة، قرأت في "النّهار"، يوم 13 تشرين الثاني 2011، ردًّا غير مُوَقَّع، صدر عن المجلس الإسلاميّ العلويّ وحمل عنوان "المجلس الإسلاميّ العلويّ: لسنا مَن تحدّث عنهم مقال "مَن هم العلويّون؟". وفي هذا الردّ تركيز على الجانبَين العقيديّ والتاريخيّ، وإعراض عن كثير من الشكليّات والإحصاءات والمعلومات العامّة، فبدا لي أنّ كاتب الردّ مُتَرَفّع عمّا طبع التحقيق من سطحيّة وتسرُّع، وعمّا حمله من "مغالطات" ومعلومات ساذجة.
وبعدَما قلت ما قلت في المعلومة والمادّة التاريخيّة، وعرضت لِما في المحتوى من نقائص وعيوب، أُشيح ببصري عن السقط اللغويّ وركاكة الأسلوب؛ وأغرب ما في هذا قول الكاتبة "حجم العلويّين"، إذ استعملت الحجم في موقع العدد. وأخيرًا، ما من شكٍّ عندي في أنَّ تحقيقًا كهذا يجب أن يُدرَس كأنموذج لكتابة يحلّ فيها قلم الصحافيّ محلّ قلم الأكاديميّ المؤرّخ. وبذلك يفرض الصحافيّ نفسه على القرّاء مؤرِّخًا، ويكتب في ساعة أو ساعات قليلة ما يحتاج الباحث أو المؤرّخ إلى أيّام، إن لم أقل أسابيع، كي يكتبه.
رفضت إدارة تحرير "النّهار" نشر هذه المقالة
|