معذرةً ... صاحبَ الغبطة
قرأتُ في "النهّار"، يوم ۵ آذار ۲۰۱۲، ما نُسِبَ من قول إلى البطريرك المارونيّ بشارة الراعي في حديثٍ له مع وكالة رويترز. وممّا لفت انتباهي بالتحديد قول غبطته "أقرب شيء إلى الديموقراطيّة هي سوريا" (أو: هو سوريا)، فأنعمتُ النظر في هذه الجملة، وردَّدتُها مرّات، فعرفتُ أنّها صيغت صياغة بدائيّة يُسأَل عنها من حرَّر الحديث ووزَّعه. فصواب التركيب أن يُقال بالحرف:" أقرب الأنظمة (أو: أقرب نُظُم الحكم) إلى الديمقراطيّة هو النظام السوريّ"، أو يُقلَب التركيب فيُقال:"إنّ النظام السوريّ أقرب الأنظمة (أو: أقرب نُظُم الحكم) إلى الديمقراطيّة". ولمّا كان غبطته لم يحدّد الأنظمة التي يقصد أو التي يستثني منها، سواء أكانت عربيّة أم عالميّة، بات من حقِّك أن تجتهد في التفسير، فلك أن تفهم أنّه يستثني النظام السوريّ من الأنظمة الحاكمة في العالم كلّه، ولك أن تفهم أنّه يستثني النظام السوريّ من أنظمة الحكم العربيّة كلّها، وفي مقدّمها نظام الحكم في لبنان. وذلك لأنّ غبطته لم يقل "أقرب بلد إلى الديمقراطيّة من بعد لبنان هو سوريا"، أو "أقرب الأنظمة الحاكمة إلى الديمقراطيّة من بعد لبنان هو نظام الحكم في سوريا". وصاحب الغبطة يعرف جيّداً أنّه لو حلَّل جملته هذه لمَا أفضت به إلى غير هذا. وهكذا أصبح معيار الديمقراطيّة في بلدٍ ما وقفاً على مادّة دستوريّة واحدة تَتَرجَّح بين أن يكون دين الدولة الإسلام وأن يكون دين رئيس الدولة الإسلام.
يؤسفني أوّلاً أنّ صاحب الغبطة لم يقرأ مقالتي التي نُشِرَت في "النّهار" يوم ۵ كانون الأوّل ۲۰۰٤، تحت عنوان "... ويومَ كانت بكركي محجّاً للسياسيّين السوريّين"، والتي جُعِلت في ملفّ خاصٍّ أُرسِل، في أوائل عام ۲۰۰۵، إلى غبطة البطريرك صفير وأصحاب السيادة المطارنة. ويؤسفني ثانياً أنّ صاحب الغبطة لم يقرأ مقالتي (الثلاثيّة) التي نُشِرت في "الحياة"، يوم ۱۳ تشرين الأوّل ۲۰۱۱، تحت عنوان "السوريّون والبطريكيّة المارونيّة: هواجس ليست في محلّها"، ونُشِرت في "النهار"، يوم ۲۳ تشرين الأوّل ۲۰۱۱، تحت عنوان "من حقّ المسلم اللبنانيّ أن يهتف: تداعينا إلى بكركي"، ونُشِرت أخيراً في "السفير" يوم ۲۷ تشرين الأوّل ۲۰۱۱، تحت عنوان "الإخوان المسلمون وهواجس البطريرك". وفي أوائل الشهر التالي (تشرين الثاني)، أُرسِلَت النسخ الثلاث من المقالة إلى أمانة سرّ البطريركيّة.
أقول لصاحب الغبطة أَنْ لا مِنَّةَ لأحدٍ في ما نصَّ عليه الدستور السوريّ الجديد الذي جاء في إحدى موادّه أنّ دين رئيس الجمهوريّة الإسلام وليس دين الدولة. فالدستور السوريّ لم ينصّ يوماً، طوال عهدَي الانتداب والاستقلال، على غير أنّ دين رئيس الدولة الإسلام. وهذا يعني أنّه لم يرد يوماً في الدستور السوريّ، مذ قامت الجمهوريّة، ما ينصّ على أنّ دين الدولة هو الإسلام.أَفَيُقوَّم نظام حكم في العالم استناداً إلى مادّة دستوريّة واحدة؟
وهذا يُفضي بي إلى كلام آخر، فمنذ منتصف آذار ۲۰۱۱، وحتّى أمسِ الذي عبر، أُصغي جيّداً إلى ما يقوله بعض السياسيّين والإعلاميّين اللبنانيّين في الشأن السوريّ، وأقرأ بانتباه ما يُنشَر في الصحف. وفي كثير ممّا تسمع وتقرأ، ثمّة ما يُراد له أن يدفعك دفعاً إلى الاقتناع بأنّ التاريخ السوريّ الحديث بدأ عام ۱۹۷۰ (أو مع بداية عهد البعث عام ۱۹٦۳). وإنّه لَيُحزِنك أن ترى بعضهم يجهل أنّه كانت هناك جمهوريّة تُدعى "الجمهوريّة السوريّة" (لا "الجمهوريّة العربيّة السوريّة")، وأنّ تلك الجمهوريّة قارعت الانتداب الفرنسيّ حيناً وحاربته أحياناً كثيرة، وانتزعت استقلالها انتزاعاً. ويُحزِنك أن ترى بعض القوم في لبنان يحسب أنّ "سورية" كانت، قبل عام ۱۹۷۰ (أو عام ۱۹٦۳)، دولة مغمورة أو جمهوريّة موز، فلا أحزاب سياسيّة (يقولون في قانون الأحزاب إنّه الأوّل من نوعه في سوريا الحديثة)، ولا صحافة حرّة (يقولون في قانون الإعلام إنّه الأوّل من نوعه في سوريا الحديثة). ويُحزِنك أخيراً أنّ بعض القوم يجهل أنّ "سورية" أنجبت شخصيّاتٍ وأعلاماً كباراً، فمن مجاهديها إبراهيم هنانو وعبد الرحمن شهبندر وسلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وأحمد مريود، ومن شخصيّاتها السياسيّة والوطنيّة هاشم الأتاسي وفارس الخوري وشكري القوّتلي وسعد الله الجابري وفخري البارودي وعبد الرحمن الكيّالي وجميل مردم وناظم القدسي وخالد العظم وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار... إلخ.
لَكَم أودّ لو أنّ غبطته يقتصد قليلاً حين يكون الحديث حديث سياسة..!
فمعذرةً... يا صاحبَ الغبطة!
النّهار: العدد 24693، 1/4/2012
|