مئة سنة على صدور جريدة الوطن
هي "جريدة يوميّة جامعة، أصحابها ومحرّروها: شبلي ملاّط ونجيب شوشاني وفيليكس فارس، مديرها المسؤول نجيب شوشاني، محلّ إدارتها أوّل طريق النهر شرقيّ ساحة الاتّحاد".
صدر العدد الأوّل من "الوطن" في بيروت يوم الاثنين في 5 تشرين الأوّل 1908غ و22 أيلول 1908ش، الموافق لـ10 رمضان 1326هـ، فجاء في أربع صفحات من القطع الكبير. وقد حُدِّدت قيمة الاشتراك السنويّ في الصحيفة بعشرين فرنكاً في بيروت، وخمسة وعشرين فرنكاً في سورية ولبنان، وثلاثين فرنكاً في سائر البلدان. أمّا أجرة الإعلان فيها فهي خمسة قروش للسطر الواحد في الصفحة الأولى، وثلاثة قروش في الصفحتين الثانية والثالثة، وقرشان في الصفحة الرابعة. وقد رأينا كلمة "الوطن" في الأعلى تتوسّط ما يشبه اللوحة الفنّيّة، فهي قد طُبعت على مصوّر الدولة العثمانيّة، وفوقها في أعلى الصفحة الراية العثمانيّة يتوسّطها الهلال والنجمة، وتحتها سيف مُغمَد وقلم (أو ريشة) قد تقاطعا فشكّلا زاوية منفرجة، فجاء الأوّل إلى يسار كلمة "الوطن" والثاني إلى يمينها، وتحت القلم إلى اليمين كلمة "العلم"، وتحت السيف إلى اليسار كلمة "القوّة". ثمّ نقرأ تحت القلم كلمة "حرّيّة"، وفي الزاوية بين القلم والسيف كلمة "مساواة"، وإلى اليسار تحت السيف كلمة "إخاء". والمفردات الثلاث (حرّيّة مساواة إخاء) هي شعار البنّائين الأحرار، وشعار الثورة الفرنسيّة، وشعار "جمعيّة الاتّحاد والترقّي" التي حكمت الدولة العثمانيّة بعد انقلاب سنة 1908. وقد رأينا هذا الشعار، حينئذ، يتصدّر الصفحة الأولى في عدد من صحف بيروت. وبين كلمتَيْ "حرّيّة" (إلى اليمين) و"إخاء" (إلى اليسار)، أنشوطة بشكل جناحي فراشة تربط السيف بالقلم، وعلى شقّها الأيمن كلمة "اتّحاد"، وعلى الأيسر كلمة "وترقّي". وفي أسفل الصورة (اللوحة)، بدا في أدنى اليمين قطار يسير على سكّة الحديد، وخلفه في أقصى اليمين زورق يمخر عباب البحر؛ كما بدا في أدنى اليسار فلاّح يحرث الأرض، وفوقه ملاك في يده اليمنى ميزان وفي يده اليسرى بوق ينفخ فيه. وتحت الصورة (اللوحة) نقرأ إلى اليمين "بالعمل حياة الشعوب"، وإلى اليسار "حرّيّة النفس أسّ السعادة".
بدأ العدد الأوّل من "الوطن" بقصيدة وطنيّة حماسيّة غير موقّعة، نرجّح أنّها من نظم شاعر الأرز شبلي ملاّط؛ وهي قصيدة رائية نُظِمت على البحر الكامل وجاءت في ثلاثين بيتاً شغلت العمودين الأوّل والثاني من الصفحة الأولى، ومطلعها: مهدَ الجدود ومسرحَ الأعمار وهوى النفوس ومطمحَ الأبصار
أنتَ الحبيب ومألفُ الأحباب بل أنت النعيمُ ومغنمُ الأوطار
وبيت ختامها: وطنٌ به نحيا ونفخرُ أنّنا لصلاحهِ من جملةِ الأنصارِ
وبعد القصيدة تطالعنا افتتاحيّة شغلت العمود الثالث من الصفحة وبعضاً من الصفحة الثانية. وهي لم تحمل عنواناً، لكنّ الصحافيّين كانوا يدعونها غالباً "فاتحة الكلام"، لأنّها تعبّر عن الغرض من إصدار الصحيفة وعن منهج هذه وخطّتها. وإليكم بعضاً ممّا جاء في تلك الافتتاحيّة: " دعونا جريدتنا باسم "الوطن" تيمّناً واستبشاراً بأنّنا قد وجدنا تلك الضالّة التي نشدناها حقبة من الزمن، واجتمعنا بأكرم بقعة من الأرض كانت عندنا قبل الحكومة العثمانيّة الشورويّة من أسماء الغول والعنقاء. أضعنا الوطن دهراً، وفي ضياعه قد فقدنا تلك القوّة العظيمة التي يمثّلها مجموع الأمّة المتناصرة المتعاهدة. فكنّا ننظر من بعد إلى الأمم المترقّية الناهضة ودمعة الأسف في الجفون. نأسف لفراغ في القلب كان ينبغي أن يملأه حبّ التربة التي ضمّت عظام أجدادنا وآبائنا، وستضمّنا يوماً إليها. نبكي لبلاد كان في وسعها أن تكون في مقدّمة كلّ بلاد لو تذكّرت مجدها القديم وأيّام عزّها الخاليات. ولكن، هو الانقسام حتى لا تجتمع كلمة ولا تقوم قوّة، وهو الاستبداد حتى لا ينهض شعب ولا تسود أمّة ...
كان الشعب محروماً عاطفة السلطان، والسلطان محروماً عاطفة الشعب، ذلك لأنّ الستار الكثيف الفاصل معنويّاً بين رأس الأمّة وأعضائها لم تكن تقوى على خرقه أشعّة الحقّ الواجب على الحاكم والمحكوم؛ فتلاشت قوّة ذلك النور رويداً، حتى أوغلت الأمّة وسلطانها في ظلمات متراصّة، وكاد كيانها يمسّ عالم الفناء لولا شهاب أرسلته يد العناية، فشقّ ذلك الظلام المتلبّد، ومزّق ذلك الستار المخيف، وأزال ما بين الرئيس والمرؤوس من سوء التفاهم، فعرف السلطان شعبه، وعرف الشعب سلطانه ... وحينئذٍ دوّى في فضاء المعمور ذلك الصوت المحبوب: "فلْتعشْ تركيّا! فلْيسلمْ شبابها الثاقب!". ولم يكن ذلك الشهاب الذي بدّل المملكة العثمانيّة وردّها من حالٍ إلى حالٍ إلاّ الدستور. وبغتة سمع العالم من أقاصيه إلى أدانيه صوت الحرّيّة على ضفاف البوسفور يدعو الأمّة إلى أحضان وطنها العثمانيّ، فدهشت أورويا بأسرها لذلك الانقلاب السريع، واستكبرت أن يُعلَن القانون الأساسيّ (الدستور) في مثل المملكة العثمانيّة ولا يُهرَق فيها مِحجَم من الدماء...".
وبعدما يتحدّث المحرّر عن بعض الاضطرابات التي وقعت في أرجاء المملكة إثر الانقلاب العثمانيّ، يتوجّه بالكلام إلى صحيفته هذه قائلاً: "فسيري اليوم أيّتها الجريدة التي تحملين اسماً من أطرب الأسماء في أسماع أنصار الوطن، واجمعي صوتك إلى أصوات رصيفاتك المعتدلات المشرب، المتباهيات بالصدق، المتهالكات على خدمة البلاد، واحذري مركب التطرّف والميل مع الهوى، فكلاهما مرتع وخيم".
وتحت عنوان "نهج الجريدة" يقول المحرّر إنّ منهجها "اتّباع الحقيقة أينما وُجِدت، والدفاع عن كلّ حقّ مهضوم، ومقاومة كلّ ذي عبث يعمل على إضلال الأمّة ... ورائدها إنّما هو الإخلاص في خدمة الدولة والوطن ...". وقد آلت الجريدة ألاّ تُغضيَ على القَذى، وعهدها للقارئ هو الثبات على مبدئها الأساسيّ، فهي "لا تنقض في يومها ما أثبتته في أمسها، ولا تنقلب مع الهوى ... وهي تُعرِض عن قبول كلّ رسالة مأجورة يُشتَمّ منها مسّ كرامة أحد ... هي ملك للمصلحة العامّة وخادمة للشعب تعرف ما لها وما عليها من الحقوق والواجبات".
وربّما كان من المفيد أخيراً أن يعرف القارئ أنّنا كنّا قد تحدّثنا عن صدور العدد الأوّل من "الوطن" في جانب من مقالة لنا نُشِرت في "النهار" (العدد 18642) يوم 27 أيلول 1993.
لا ينتظرنَّ منّا القارئ أن نخبره الكثير عن جريدة "الوطن"، أي عن سنوات صدورها، وعن سياستها وصراعها مع السلطة، وعن مجموعتها وأماكن وجودها. فقد أعيتنا الحيلة، إذ لم نقف على أثر لها في كلّ مكتبات لبنان، وما بين يدينا منها، بعد العدد الأوّل، غير عدد واحد هو العدد 27 الصادر في 4 تشرين الثاني 1908، وما زال فيه التعريف والدوريّة وعدد الصفحات وشروط الاشتراك والإعلان على حالها، أي كما كانت في العدد الأوّل. لكنّ أسماء أصحاب الجريدة لم تبق كما كانت في العدد الأوّل، إذ نقرأ في أعلى الصفحة إلى اليمين "صاحبا الجريدة ومحرّراها: شبلي ملاّط ونجيب شوشاني". وهكذا سقط اسم فيليكس فارس منذ الشهر الأوّل. والطريف في هذا العدد هو أن صفحته الأولى خصّصت كلّها لقصيدة شبلي ملاّط التي ألقاها في فندق صوفر الكبير يوم 21 آب 1908، ونُشِرت في هذا العدد نزولاً عند رغبة القرّاء، وحملت عنوان "قصيدة صوفر". وهي قصيدة ميميّة نُظِمت على البحر الكامل، ومطلعها:
السيف أفصح خاطب يتكلَّمُ في موقف الأهوال إن خرِسَ الفمُ
وهكذا ترسّم الشاعر خطى أبي تمّام في بائيّته المشهورة (السيف أصدق إنباءً من الكتب)، ولا غَروَ فشبلي شاعر كبير استحقّ عن جدارة لقب "شاعر الأرز".
النّهار: العدد 23533، 19/11/2008
|