مئة سنة على صدور "الاتّحاد العثمانيّ"
هي "جريدة يوميّة سياسيّة أدبيّة اجتماعيّة عمرانيّة"، صاحب امتيازها ورئيس تحريرها أحمد حسن طبّارة. صدر عددها الأوّل عن المطبعة الأهلية في بيروت، يوم الثلاثاء في 26 شعبان 1326 هـ ، الموافق لـ22 أيلول 1908غ و9 أيلول 1908 ش، فجاء في أربع صفحات من القطع الوسط، وحُدِّد ثمن النسخة منها بـ "ميتاليك" واحد. أمّا الاشتراك السنويّ فيها فهو أربعة ريالات مجيديّة في بيروت، وليرة عثمانيّة (ذهبيّة) في سائر الجهات. وأمّا الإعلانات فأجرة السطر الواحد منها خمسة قروش في الصفحة الأولى، وأربعة قروش في الصفحتَيْن الثانية والثالثة، وقرشان في الصفحة الرابعة. هذه شروط الاشتراك والإعلان في العدد الأوّل، لكنّها كانت عرضة للتبدّل في ما بعد.
بدأ العدد الأوّل من "الاتّحاد العثمانيّ" بافتتاحيّة مطوّلة شغلت الصفحة الأولى وبعضاً من الثانية، وحملت عنوان "فاتحة المقال". وممّا جاء فيها : "وبعد، فهذه جريدة ادّخرناها لهذا العصر، العصر الذي لا ندري بأيّ لسان أم بأيّ بنان نحمد الله تعالى، إذ منّ علينا به ونحن في عنفوان العمر، بعد أن كدنا نيأس من بلوغه أبداً، عصر الحرّيّة التي حسبنا من تعريفها أنّها الأصل في الإنسان، وبدونها لا يشعر بنفسه أنّه إنسان، عصر الحقيقة التي يستطيع المرء أن يقولها ويخدمها دون إبهام ولا إيهام ولا تمويه ولا تضليل. اَللَّهمَّ، لك الحمد على ما أعطيت فأنعمت، ومنحت فأفعمت، ثمّ الشكر لأحرارنا الكرام الذين جاهدوا في إحراز هذه النعمة جهاداً أحرزوا به الفضل والمنّة، والثناء على جيشنا الباسل المظفّر الذي كان الساعد الأقوى والعضد الأكبر، والدعاء لسلطاننا الأعظم الذي اختار إجابة النداء على سفك الدماء، فلم يكد يجيز نشر الدستور حتى انقشعت تلك السحابة السوداء التي خيّمت فوق مملكتنا العثمانية زهاء ثلث قرن وحجبت عنها نور الحياة الشريفة، فأذبلت زهرتها وأوهت أغصانها، وتزاحمت حولها أيدي الطامعين بها، يتفنّنون في كيفية تقطيع أوصالها إلى أن كادوا يودون بأصولها ...". وفي "غاية الجريدة" يقول طبّارة إنّ الغرض من إصدارها هو أن يكون مسمّاها مطابقاً لاسمها، فهي تخدم الجامعة العثمانية لاعتقادها أنّ في وحدتها إعلاءً لشأنها وصيانةً لكيانها. فكلّ ما يؤيّد هذه الجامعة هو ضالّتها، وكلّ ما يؤيّد ذلك الاتّحاد هو غايتها. وفي "خطة الجريدة" يقول طبّارة إنّها قائمة على "الصدق والاعتدال"؛ فالأمّة اليوم في أمسِّ الحاجة إلى نشر ما يفيد لا ما يرضي، لأنّ سياسة الإرضاء مفيدة للجريدة مادّيّاً مضرّة بالأمّة معنويّاً. ويضيف المحرّر: "إنّ خطّتنا في جريدتنا هذه التقاط الحكمة من أيّ وعاء خرجت، والمجاهرة بالحقيقة وإن جرحت. فإنّ كتمان الداء بعد تلك الفضيحة يُعَدّ خيانة، وإن عدّه الخائنون عيباً ... إنّنا لا ندّعي العصمة في الرأي، ولا الصيانة من الخطأ؛ فكلّ من رأى منّا خروجاً عن هذه الجادّة فلينبّهنا إليه، فنكون له من الشاكرين ...". ثُم يُبلِغنا المحرّر أنّه أراد لجريدته أن تكون، منذ البداية، في ثماني صفحات من القطع الكبير؛ لكنّ الظروف لا تسمح بتحقيق ذلك فوراً، ولا سيّما أنّ قرّاء الجرائد في بلادنا لا يتجاوزون العشرة في المئة من مجموع الأمّة. وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن "تحرير الجريدة"، فيطمئننا إلى أنّه اختار لجريدته نخبة من خيرة المحرّرين وأفاضل كتّاب العصر، ممّن عُرِفوا بسلامة الذوق وحرّيّة الفكر، راجياً أن يؤازروه ويشدّوا عضده، لأنّ المرء كثير بأخيه قليل بنفسه.
وقد رأينا أنّ موادّ العدد الأوّل، بعد الافتتاحيّة، جاءت موزّعة بين أخبار بيروت والولاية، ثم أخبار الدولة العثمانيّة، تليها الأخبار الأجنبيّة، فالإعلانات أخيراً.
دأبت جريدة "الاتّحاد العثمانيّ" في الصدور يوميّة بانتظام (ستّ مرّات في الأسبوع)، وفي أربع صفحات من القطع الكبير، وما زال صاحبها ورئيس تحريرها الشيخ أحمد حسن طبّارة. لكنّنا بتنا نلحظ، بعد سنة 1910، وفي أعلى الصفحة الأولى، اسم مدير مسؤول هو خليل عَورا؛ ولم يدم هذا طويلاً، إذ بتنا نلحظ، سنة 1912، اسم مدير مسؤول آخر هو الدكتور حليم قدّورة الذي لازم إدارة الصحيفة، في ما نرجّح، حتّى آخر أيّامها. ولم يكن قد مضى على صدور الصحيفة غير أسابيع قليلة حين أتبعها صاحبها مُلحقاً أسبوعيّاً حافظ على الاسم نفسه والتعريف نفسه، لكنّه دُعِي "العدد الأسبوعيّ". ولسنا نعلم كم استمرّ هذا الملحق في الصدور.
أولى التجارب التي تعرّضت لها جريدة "الاتّحاد العثمانيّ" مع الرقابة والسلطة كانت صيف العام 1912؛ فقد قضى "الديوان العرفيّ" في بيروت، يوم الخميس في 31 تمّوز 1912، بتعطيل الصحيفة، فما كان من صاحبها إلاّ أن عاودَ إصدارها باسم جديد هو "الائتلاف العثمانيّ" التي صدر عددها الأوّل في 2 آب 1912 وحمل الرقم "1-1172". وقد استمرّت هذه تصدر بدلاً من "الاتّحاد العثمانيّ" حتى منتصف شهر تشرين الثاني من العام نفسه.
وفي مطلع سنة 1913، أُنشِئت في بيروت "الجمعيّة العموميّة الإصلاحيّة"، فوضعت لائحة إصلاحيّة رفعتها إلى والي بيروت أبو بكر حازم ونشرتها في الصحافة. وكان الشيخ أحمد حسن طبّارة من مؤسّسي هذه الجمعيّة، ومن أبرز المتحمّسين للائحتها الإصلاحيّة؛ وطبيعيّ، في هذه الحال، أن تكون صحيفته صوت الإصلاح المدوّي في بيروت يومئذ. لكنّ والي بيروت أصدر، في 8 نيسان 1913، قراراً قضى بحلّ "الجمعيّة العموميّة الاصلاحيّة" وإقفال ناديها، فصدرت صحف بيروت، وفي مقدَّمها "الاتّحاد العثمانيّ"، صباح اليوم التالي (9 نيسان) وصفحاتها بيض ما فيها غير بلاغ الوالي مطبوعاً في وسط الصفحة الأولى. وفي الأعداد التالية من "الاتّحاد العثمانيّ"، اشتدّت حملة الشيخ طبّارة على والي بيروت وعلى الاتّحاديين، فصدر قرار جديد، في أوائل أيّار 1913، قضى بتعطيل "الاتّحاد العثمانيّ". وعلى الأثر أصدر طبّارة، في 10 أيّار 1913، صحيفة بديلة دعاها "الإصلاح"، وحملت الرقم "1-1396". وقد طال زمن التعطيل هذا، وطال معه أمد "الإصلاح" التي ظلّت تصدر حتّى آخر حزيران 1914، وصدر منها ما يقرب من 350 عدداً.
وحين عُطّلت "الاتّحاد العثمانيّ" تعطيلها الثاني هذا، وحلّت محلّها جريدة "الإصلاح"، كان أحرار سوريا ولبنان يُعدّون العدّة للمؤتمر العربيّ الذي عُقِد في باريس في حزيران 1913، وكان الشيخ طبّارة من أبرز الداعين إليه، كما كانت جريدته "الاتّحاد العثمانيّ"، أو "الإصلاح" في ما بعد، من أبرز الصحف التي مهّدت للمؤتمر، ثمّ نقلت أخباره، ونشرت مقرّراته وتوصياته. وحين افتُتِح المؤتمر، يوم 12 حزيران، سُمِّي الشيخ طبّارة أميناً للسرّ، فكان من خيرة الناشطين فيه.
كانت "الاتّحاد العثمانيّ" أولى الصحف الإصلاحيّة في بيروت، ولهذا دعاها صاحبها، بعدما عُطِّلت سنة 1913، "الإصلاح"، وكانت، كرصيفتها "المفيد"، من أبرز الصحف التي ناوأت الحكم الاتّحاديّ، ودافعت عن العنصر العربيّ، وغذّت النزعة القوميّة والروح الاستقلاليّة. لكنّ ضراوة الحرب العالميّة الأولى، واضطهاد الاتّحاديّين لأحرار العرب، وتضييق الخناق على الصحافة العربيّة، وأخيراً بدء المحاكمات في "الديوان العرفيّ" بعاليه، كانت كلّها عوامل عجّلت في انطفاء شعلة هذه الصحيفة الحرّة، فتوقّفت أو احتجبت في مطلع سنة 1916. فآخر ما توافر لنا من أعداد "الاتّحاد العثمانيّ" هو العدد 2269 الصادر في 12 كانون الثاني 1916. وحينذاك لم يبق متّسع من الوقت، فالأحرار يُقتادون إلى "الديوان العرفيّ" في عاليه، وجمال باشا (السفّاح) ينصب أعواد المشانق. ولمّا لم يبقَ للشيخ أحمد حسن طبّارة ما يخسره بعد احتجاب "الاتّحاد العثمانيّ"، مضى إلى الحبل طائعاً مختاراً، واستُشْهِد، يوم 6 أيّار 1916، في الساحة التي حملت بعدئذ اسم "ساحة الشهداء".
النّهار: العدد 23475، 20/9/2008
|